الربيعي بين بغداد وقرطاج رحيل جسد وبقاء إرث

لايوجد شيء أقسى من الفقد ابداً ، خصوصاً اذا كان الفقيد قد أفنى حياته بعيداً عن الأهل والاحبة ثم يعود اليهم بعد غيابً طويل ، فرحين بتلك العودة، ولايعلمون أن القدر أختاره ليموت بينهم

 . فالعم الربيعي ، قرر أن يغادر العراق سنة ١٩٨٧ م كان وقتها يسكن بغداد العاصمة ، فحمل مكتبته الخاصة بسيارة حمل كبيرة ( لوري ) وهو يرافقها بسيارته الخاصة ، فكانت محطته الأولى مضيف والدي رحمه الله تعالى ، فسررنا واسعدنا به ، فجلست وأخوتي معه ، وكان يتحدث لوالدي عن معاناته في الكتابة وان السفر محظور عليه من قبل نظام الحكم لان أكثر مايخشاه النظام هو القلم الحر عندما يعيش صاحبه الحرية بعيداً عن سلطة الدولة ، علمتُ في نهاية الحديث أن زيارته هذه هي الأخيرة لقريتنا ، بعدها طلب منا مرافقته كي يزور اقربائه في بيوتهم ، طرق البيوت الواحد تلوى الاخر ، احتضن الصغار قبل الكبار، فكانت لحضة الوداع قاسية لان قلب الربيعي لم يكن كأي قلب فكان ينبوعاً من الحنان طيباً لايكره ولايحقد ولايحمل في قلبه على احد هكذا هو قلب الربيعي ذاك القلب الذي ينبض حبا وحنانا أحب الجميع فأحبوه ، ثم بعدها تجول الربيعي في مضايف قرية ابوهاون والتقى بشيوخها ووجهائها ومثقفيها ، ثم ودعهم وداعاً مشوقاً ، وهم لايعلمون عن قصة سفره ، ثم عدنا إلى مضيف والدي وقبل أن يودعنا الوداع الأخير أهدى لي ثلاثة كتب ختم في صفحاتها الأولى ( هديتي إلى مكتبتي في مدينتي الأم الناصرية) وكانت جميع الكتب التي اهداها إلى المكتبة العامة في الناصرية مختومة بهذا الأهداء . بعد ذلك قرر الربيعي ان يسافر حتى وأن تعرض للمخاطر ، لأن القلم يشكوا له ذالك ، فيريد الانطلاق في الكتابة دون قيود

ثم جاءت إليه الفرصة المناسبة ، عندما وجهت له دعوة للحضور في المهرجان الذي أقيم في جمهورية مصر العربية لتكريم الروائي نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأداب ، فكانت الحكومة العراقية لم تستطيع رفض الدعوة ومنع الربيعي من السفر لأنها كانت من مكتب رئاسة الجمهورية ، وأخيراً تحقق حلم الربيعي عندما وافقت الحكومة على سفره لحضور مهرجان التكريم ، حتى انقطعت اخباره لسنوات ، ولم نعرف في أي دولةً هو ، وكيف لنا معرفة اخباره وفي ذلك الزمان لايوجد في العراق سوى التلفاز والراديو ولا توجد وسيلة اتصال اخرى لنطمئن فيها عن حياته واين استقر منزله، وهل تمكن من الوصول إلى دولة تحميه من ملاحقة النظام ، اسئلة نتداولها بيننا ، نحن ابناء عمومته وابناءه واخوته إلى أن جاء إلينا ابن عمنا العميد علي الملا عباس وكان يسكن مركز مدينة الناصرية فكان أخيه وأبن عمه وصديق طفولته وأخبرنا بأن أبا حيدر ارسل له رسالة وطلب منه أن يطمئن اخوته وابناءه وابناء عمومته بأنه بخير وحالياً يسكن تونس ، وذكر لي في رسالته قائلاً : أن تونس هي التي احتضنتي وقدمت له الشيء الكثير ، ووفرت لي كل ما احتاجه ، لكن روحي بقت معلقة في مدينتي الأم الناصرية وبغداد التي لم تفارقني لحظة ، فأنا اسكن تونس وقلمي لم ينسى العراق وبغداد و الناصرية ، ثم كتبت عن تونس التي فتحت لي ابوابها ، هكذا وصلت الينا اخبار أبا حيدر ، إلى أن سقط نظام صدام ودخل الانترنت العراق واصبحت وسائل التواصل الاجتماعي الطريقة التي ممكن أن تتواصل فيها مع الذين يسكنون خارج العراق وتعرف أخبارهم . فتحت الكوكل وكتبت اسم عبد الرحمن مجيد الربيعي ، حتى ظهرت لي مؤلفات وروايات ومقالات ليس لها نهاية ، صفحات كثيرة في الكوكل تتحدث عن أبا حيدر ، قرأت العناوين كلها ، فوجدت العم الربيعي قد سجل في سردياته تفاصيل تاريخ بلاده ومحطاته وذكرياته واشتهر بكتابة القصص والروايات والشعر واصبح شخصية معروفة عربياً وعالمياً ، حتى أصبحت قصصه ورواياته موضوعاً لعدد من الدراسات الجامعية وصدر بعضها في كتب قصص مترجمة إلى عدد من اللغات مثل الانكليزية والفرنسية والالمانية والإسبانية والروسية والصربية والبولندية وغيرها ، فكانت فرحتي لاتوصف ، وكنت اتحدث لأصدقائي ماقرأته كذالك ابناء عمومتي وكان الجميع فخور به ، حتى أصبحوا يترقبون عودته إلى العراق ، سعيتُ جاهداً في البحث عنه وكيف اتمكن من الوصول اليه والتحدث معه ، وأخباره بأن الجميع يتمنى عودته إلى العراق ، بحثت عن صفحته الشخصية في التواصل الاجتماعي فلم اجدها ، وبعد فترة طويلة من البحث وجدتُ صفحته الشخصية على الفيسبوك ، راسلته على الماسنجر ، وبعد السلام لم يمنحي فرصة للحديث معه ، فقط هو من يسأل ، سألني عن والدي ووالدتي وأخوته واخواته وأبناءهم ،وابناء عمومته ، لم ينسى أحد ، فأخبرته بأن الجميع بخير ويترقبون عودتك إلى بلدك العراق ، فقال لي بأن وزراة الثقافة العراقية والاصدقاء من الأدباء اتصلوا بي ويطلبون ذات الطلب ، لكني لا اعتقد بأنني سوف أكون بأفضل مما أنا فيه في تونس لكن الشعور بالغربة ومقاومة كل تلك المرارة التي تتركها الوحدة والغربة في طعم أيامنا لم اكاد اتحملها حتى اخذ يحركنا الحنين لأوطاننا . عاد الربيعي إلى الوطن وجاء إلى الناصرية واستقبلته وحضرت معه في الاحتفاء الذي قام به اتحاد ادباء الناصرية ، ثم جئت به إلى أهلي وابناء عمومتي وأقام في بيت ابن عمه الذي هو بيت والدي ،طلب منا أن يرى الجميع ويسلم عليهم ، فجاءت اليه العوائل بأبناءهم وأحفادهم ، اخذ يقبل الجميع ويحتضن الصغار ويضمهم اليه ويقبل رؤوسهم ، وفي صباح اليوم الثاني تجول في القرية وزار مضايفها وشرب الشاي والقهوه والجميع سعداء بقدومه وعودته بعد رحلته الطويلة ، ثم تحدث اليهم قائلاً ، اليوم سعادتي لاتوصف وأنا بينكم وانتم تستقبلوني بهكذا استقبال ، اريد ان اجلس بينكم كثيراً فقد افنيت حياتي في الكتابة والترحال بين الدول العربية والعالمية، نعم حققتُ الكثير ، لكن الثمن كان أكبر فراقكم أولاً ثم خسرتُ صحتي وضعفَ بصري وأصبح السفر صعبٌ بالنسبة لي ، لكن مع هذا لم استطيع أن ارفض دعوتكم لي كذالك اصدقائي الادباء الذين وجهوا لي دعوات كثيرة لحضور المؤترات في الوزارة واتحاد الادباء والجامعات العراقية كذالك وجهت لي دعوة من طالبة عراقية كتبت رسالة الماجستير عني في الجامعة المستنصرية وطلبت مني احضر جلسة المناقشة ، فكيف بي وأي قلب احمله حتى أرفض كل هؤلاء ، عندها اتخذت قرار السفر والعودة إلى العراق لكي البي دعوات الاهل والاصدقاء والمحبين . كان ذالك في عام 2016 عندما عاد الربيعي إلى العراق من الغربة والتي أستغرقت ٢٧ عاماً ، عاش لحظات الأحتفاء وسط أهله ومحبيه وجمهور مدينته الناصرية وكان ذلك في الأمسية التي نظمها اتحاد الأدباء والكتاب في ٢/٤/٢٠١٦ ثم جاءت اليه دعوة من السيد محافظ ذي قار السابق يحيى الناصري ونائبه السيد عادل الدخيلي ، فأتصل بي كي احضر معه اللقاء ، وفي اليوم التالي ذهبتُ معه إلى السيد المحافظ ، والذي أثنى على انجازات الربيعي الأدبية ، فكان هنالك تكريم بدرع الإبداع وخصص له قطعة أرض بمسقط رأسه في مركز المدينة ، ثم ذهبنا إلى لقاء الاستاذ عادل الدخيلي نائب المحافظ ، والذي كان سعيد جداً بلقاء الربيعي ، وقال له نحن سعداء بما قدمته للعراق وللوطن العربي ، وقد كرمه بدرع الأبداع كذالك أرسل كتاب إلى بلدية الناصرية لتسمية أحد شوارع المحافظة بأسمه ،لكن عندما ذهب الربيعي إلى بلدية الناصرية والتقى بالموظفة في قسم الأراضي وسلمها كتاب المحافظ لتخصص له قطعة الأرض ، كان سؤالها ، هل أنت أعلامي !!! رد عليها قائلاً : نعم أنا من مؤسسي الصحافة في العراق ، فهويتي تحمل الرقم (٥٠) لكن لم أجددها لأني كنت في الغربة ، قالت له أذن يجب أن تجلب ألينا كتاب من نقيب الصحفين العراقين يثبت انك صحفي !!! لم استطع الصمت أمام هكذا سؤال ، فقلت لها الم تقرأي الاسم ؟ فالواقف أمامك هو الكاتب والروائي الكبير عبد الرحمن مجيد الربيعي ، ردت قائلة ، ولو ، فأنا اعمل وفق الضوابط والاصول ، ثم عدنا إلى البيت وفي الطريق ، أقنعته بأن يتصل بولده حيدر فهو يسكن بغداد ليذهب للاستاذ مؤيد اللامي ويأتي بالكتاب ، اتصل بالاستاذ مؤيد اللامي كذلك ابنه حيدر وجاء حيدر بكتاب موقع من نقيب الصحفين العراقيين ، ثم ذهبنا ثانياً إلى الموظفة في قسم الأراضي وأعطيناها الكتاب ، فقالت له ، أنتظر حتى تخصص أراضي للصحفين !! قال لها كيف أنتظر وهذه مكرمة السيد المحافظ ، فقالت له لاعلاقة لي بمكرمة السيد المحافظ فأنا اعمل وفق الضوابط ! رد عليها قائلاً وأنا كذالك لا اريد قطعتكم ، ثم خرجنا من الدائرة وهو مستغرب لما جرى وقال لي ، ماذا جرى في العراق ، موظفة في دائرة من دوائر المحافظة لاتأخد بكتاب المحافظ . أما فيما يخص مكرمة السيد نائب المحافظ عادل الدخيلي بتسمية أحد شوارع المحافظة بأسمه ، فقد عمل لي العم الربيعي وكالة لمتابعة الموضوع مع بلدية الناصرية ، والتي بدورها خاطبت المجلس البلدي في مركز المحافظة بكتاب رسمي ، فكان جوابهم لاتوجد لدينا صلاحيات بتسمية شوارع المحافظة بأسم الأحياء ! وعندما سألني عن ذلك قلت له عن جواب المجلس البلدي ، حتى رد عليه قائلاً ( يعني منتظريني اموت حتى يسمون الشارع بأسمي ) . هذا نتاج ماحصل عليه الربيعي في حياته عندما عاد إلى وطنه العراق ، ولم يبقى سوى ولده الاكبر حيدر الذي أحتضن والده في دار استأجرها في الزعفرانية ، ليقضي بها ماتبقى من حياته ، بعدها ساءت حالته الصحية واشتد به المرض ولم يقدم له المساعدة في العلاج سوى بعض الأصدقاء والمحبين الذين يعرفونه حق معرفته وسط تجاهل تام من قبل الحكومة مثلما تجاهلوا إرثه الثقافي ، وهم بموقفهم هذا يتنكرون لعالم عراقي فذ كرس جل حياته وطاقاته الأبداعية ومؤهلاته الأكاديمية وكفاءته العلمية النادرة في سبيل رقي شعبه ورفع إسم وطنه عالياً بين الأمم ، ختامها عندما ارتوى من ماء دجلة والفرات انتقل إلى جوار ربه ليترك خلفه ارثاً وتراثاً واعمالاً ادبية تخلد ذكراه دائماً في وجدان المثقفين والمحبين ليكتب اسمه في لوحة الراحلين الخالدين .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.